ابتدأ صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الإسلام سراً، ثم جهر بها في السنة الرابعة من النبوة، وجعل يوافي مواسم الحج كل عام، يتبع الحجاج في منازلهم بمنى، يسأل عن القبائل قبيلة قبيلة، ويسأل عن منازلهم، ويأتي إليهم في أسواق الموسم- وهي عكاظ ومجة وذو المجاز- وكانت العرب تقيم في موسم الحج بعكاظ شهر شوال[1].
ثم تجيء إلى سوق مجنة؛ فتقيم فيه عشرين يوماً[2]، ثم تقيم بقية أيام الحج في سوق ذي المجاز[3]، وكان صلى الله عليه وسلم يتتبع القبائل في تلك الأسواق يدعوهم إلى الله، وإلى الإسلام، وما جاء به من الهدى والرحمة.
وكان لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله، وعرض عليه ما عنده.
كان يدعو القبائل في أسواق الحج، وكان يتصدى للقادمين إلى مكة يعرض عليهم الإسلام، فما ترك اجتماعاً إلا وبث فيه دعوته، ولا قدم بلده ذو مكانة إلا عرض عليه دينه، وناهيك بدعوة يبلغها مثل خاتم الأنبياء في بلاغته وذكائه، وناهيك بدعوة لسانها القرآن، وحجتها ذلك الكتاب، الذي ما قرع العالم ناموس أوفى منه بحاجات البشر، وأشمل لمصالح الدين والدنيا.
دعوة منظمة يقرع بها صاحبها آذان القبائل كل سنة من أمكنة اجتماعهم بموسم الحج، والقبائل بأسرها تسمع ما يعرضه صاحب الدعوة، ولا تجيب ولا تقبل، وقريش من واء ذلك تصد عن سبيل الله، بما نظمته من طرق المقاومة للدعوة، كانت ترسل خلفه من عائلته من يكذبه حينما يعرض دعوته على القبائل، ومع ذلك لم ييأس صاحب الدعوة ولم يتراجع في دعوته، وبالغ في تنظيمها، وبذل أقصى ما في وسعه في سبيل إذاعتها.
وحينما أعرض قومه عن الإجابة، وبالغوا في النكير عليه لم يضعف ولم يستكن، وما زاده عنادُ قومه إلا مضاعفة الجهد في نشر الدعوة؛ لأنه يعلم صدق ما يدعو إليه، ويوقن بأنه على حق، وأن الحق سينتصر في النهاية.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل أولي العزم من الرسل، وسيد من قاوم الباطل، وبالغ في إيصال الحق إلى القلوب، وإبلاغ الهدى إلى النفوس، وقد شاهد بعيني رأسه نجاح دعوته، ورأى عاقبة صبره وثباته، إذ تلاشى أمام عزمه عنادُ قريش.
وبطلت مقامة العرب، ودخل الجميع في الإسلام قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وزال ملك كسرى وقيصر على يد أبتاعه، وما كان ذلك لولا فضل الله، وثبات صاحب الدعوة وعزيمته، التي لا تقف عند حد، ولقد علم أصحابه كيف يكون الصبر عند اشتداد الخطب، وكيف يكون تنظيم الدعوة.
ولو أن المسلمين درسوا تاريخ الدعوة، واعتبروا ما فيه من الوسائل والطرق والمواعظ والمثل، واحتذوا مثاله وساروا على نهجه، لكان لهم اليوم شأن غير شأنهم الحاضر، ولعل الله يحديث بعد ذلك أمراً.
في كتب السير حوادث كثيرة، تتعلق بما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يعرض نفسه على القبائل، ومن تلك الوقائع ما جرى له مع بني شيبان بن ثعلبة، جاء في كتاب الروض الأنف: " ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار؛ فتقدم أبو بكر فسلم قال علي: وكان أبو بكر مقدماً في كل خير، فقال ممن القوم فقالوا: من شيبان بن ثعلبة فالتفت أبو بكر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فقال: بأبي أنت وأمي، هؤلاء غرر في قومهم، وفيهم مفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة، ومثنى بن حارثة.
والنعمان بن شريك، وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالاً ولساناً، وكانت له غديرتان تسقطان على تريبتيه، وكان أدنى القوم مجلساً من أبي بكر، فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ قال له مفروق: إنا لنزيد على الألف، ولن تغلب ألف من قلة، فقال أبو بكر: كيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: علينا الجهد ولكل قوم جد، فقال أبو بكر: كيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟
فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبا لحين نلقى، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا، لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: أوقد بلغكم أنه رسول الله؟ فها هو ذا، فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، إلى ما تدعو إليه يا أخا قريش؟
فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وإلى أن تؤوني، وتنصروني؛ فإن قريشا قد ظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد".
فقال مفروق: وإلى من تدعو أيضا يا أخا قريش؟
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} [الأنعام: 151].
فقال مفروق: وإلى من تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} [النحل: 90]
فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والله لقد أفك قوم كذبوك، وظاهروا عليك، وكأنه أراد أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة، فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا، وصاحب ديننا، فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش!
وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، زلة في الرأي، وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى، فقال: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش!
والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا، واتباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا، ليس له أول ولا آخر، وإنا إنما نزلنا بين صريان اليمامة والسماوة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما هذان الصريان"؟
فقال: أنهار كسرى، ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى، فذنب صاحبيه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وأما ما كان من مياه العرب، فذنبه مغفور وعذره مقبول، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى، أن لا نحدث حدثاً ولا نؤوي محدثاً، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه هو مما تكرهه الملوك؛ فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وأموالهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟" فقال النعمان بن شريك: اللهم لك ذا، فتلاً رسول الله - صلى الله عليه وسلم {إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً* وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً } [الأحزاب: 46].
ثم نهض النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ بيدي، فقال: "يا أبا بكر! يا أبا حسن! أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها، بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم".
من هنا يتبين لك كيف كان يتلطف صاحب الدعوة الإسلامية في عرضها، وكيف كان يعرضها في أثناء المفاوضات أو المباحثات، وفي هوادة ولين، داعياً إلى مكارم الأخلاق، مذكراً بالله ومبشراً ومنذراً، بدون فظاظة ولا غلظة، بل بالحكمة والموعظة الحسنة، مع البصيرة والدقة.
ومع تقدير المخاطَبين حق قدرهم، وإطالة التفكير مع ذوي الشرف والمكانة في قومهم، واختصاصهم بالعناية؛ لأنه كان يريد مع عرض الدعوة وتبليغها الدعوة إلى حمايته ونصره؛ حتى يستطيع تبليغ الرسالة وهو في أمن على حياته، التي كانت مهددة من قريش أهله وعشيرته.
عرض بنو شيبان أن يؤوه وينصروه مما يلي مياه العرب، فشكرهم صاحب الدعوة وأثنى عليهم خيراً، ولكنه أفهمهم أن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه.
كان صلى الله عليه وسلم يبحث عن قوم يتفانون في نصرة الإسلام، دخل الإسلام في قلوبهم؛ فاستولى على مواضع الإحساس والشعور منهم، فوضعوا أرواحهم على أكفهم، وأموالهم بين أيديهم، ابتغاء مرضاة الله، ورغبة في إعلاء كلمة الإسلام.
يريد قوماً استولى عليهم الدين من جميع جوانبهم، فهو يبحث عنهم، وما أبعد تلك النظرة؛ لأن للعقائد كل الأثر في إيجاد التطورات الهامة، والانقلابات الخطيرة، وإن انقلاباً كالانقلاب الذي حدث في بلاد العرب يوم دانت بالإسلام، ما كان يمكن أن يكون لولا بحث الرسول عن مؤمنين يهيمن الإيمان عليهم من جميع جوانبهم، واهتداؤه إليه في الأنصار والمهاجرين، ومن حذا حذوهم، وسار على منهجم.
الكاتب: عبد الباقي سرور نعيم
المصدر: موقع سفير